التاريخ: Monday, November 26
اسم الصفحة: ثقافة
أ.د. نعمة رحيم العزاوي
وقفت قبل اشهر على تصريح للدكتور علي القاسمي اللغوي العراقي الذي اتخذ له من المغرب دار اقامة، في مقال نشره على الانترنيت، اعلن فيه ان اللغة العربية مهددة بالانقراض في القرن الحالي
ووقفت بعد ذلك على حوار اجرته مجلة العربي الكويتية في عددها الاخير الصادر في تشرين الاول عام 2007، مع اللغوي العربي التونسي المعروف الدكتور عبد السلام المسدي، صرح فيه ان اللغة العربية مهددة بالضمور او الأفول.
ولم يشكل ما وقفت عليه في المرتين المشار اليهما صدمة لي، او لم يثر دهشتي واستغرابي، فذلك ما يتوقعه اكثر اللغويين العرب، وذلك ما يحذورن منه دائما، ويطلقون الصيحات المتتالية لمنعه، والحيولة دونه.
أجراس الخطر
لقد تعرضت العربية في تاريخها القريب لهذا الخطر، حين حاول الاستعمار الحديث سرقة اللسان العربي، في هذا البلد العربي او ذاك، واحلال العامية محله، او إبداله ببعض اللغات الاجنبية ولكن يقظة العرب، وتمسكهم بلغتهم، قد احبطت محاولات الاستعمار تلك، وخرجت العربية من ذلك الصراع ظافرة منتصرة.
اما اليوم، ومنذ السنوات التي تلت النصف الاول من القرن الماضي عاد الخطر يدق اجراسه من جديد على نحو يثير الرعب في قلوب ابناء العربية حيثما كانوا في الرقعة الجغرافية الواسعة التي يستوطنونها، ولعل اهم ما يخشاه هؤلاء الابناء امران: الاول ضياع لغة القرآن الكريم، وحاجتهم اذ ذاك - لا سمح الله - الى من يترجم لهم هذا النص السماوي المقدس الذي ختم الله به كتبه السماوية، على نحو ما يحتاج اليهود والمسيحيون الى من يترجم لهم التوراة والانجيل، والثاني انقطاع الاجيال العربية عن تراث ماضيهم واضطرارهم الى قراءة هذا التراث مترجما الى اللغة الجديدة التي ستكون عدة لغات، هي العاميات التي تتخذها الدول العربية، وهي ثلاث عاميات - كما يتوقع - عامية المغرب العربي، وعامية مصر، وعامية المشرق العربي.
ان هذه النبوءة التي نقلتها مجلة العربي في عددها الاخير عن الدكتور عبد السلام المسدي قد بنيت على عوامل كثيرة سأشير اليها فيما يأتي ولكن قبل ذلك لا بد من الاشارة الى ان مستويات الاداء في اللغة العربية هي ثلاثة: الأول هو ما يعرف باللغة العربية الفصحى، وهي اللغة المثالية التي تمثل لغة ما قبل الاسلام ولغة القرون الاربعة الهجرية الاولى، ولكن هذه اللغة قد أفلت منذ قرون طويلة، واحتفظت بها المعجمات القديمة وكتب اللغة ودواوين الشعراء ونتاج الناثرين الذين عاشوا في الحقبة التي حددناها آنفا.
وليس من السهل احياء هذه اللغة والعودة اليها فيما يكتبه الشعراء او الكتاب او المؤلفون المعاصرون، او فيما ينطقونه.
الثاني هو ما يدعي باللغة العربية الفصيحة وهي التي حلت محل الفصحى منذ افولها، وتمتاز بانها يحافظ فيها على قواعد العربية التي تتمثل في الصوت والصرف والنحو والدلالة، مع تسامح قليل او كثير في قبول المعرب والجديد الذي طرأ على الصرف والدلالة فهذان المستويان اسرع الى التغيير من المستوى النحوي الذي يتمتع بالثبات الى حد كبير، عدا حركات الاعراب التي يجهلها اكثر المتكلمين.
الثالث هو ما اصطلح عليه بالعامية، وهو مستوى لا يتقيد بقواعد اللغة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، ولا يراد منه الإ الافهام فقط.
واذا كانت اللغة العربية الفصحى قد افلت منذ وقت طويل وانزوت في المدونات القديمة التي تنتمي الى الحقبة التي اشرنا اليها، ولم تعد تظهر الا على استحياء من حين لآخر على ألسنة بعض علماء اللغة المعاصرين واقلامهم، فان نبوءة الضمور والافول ستقتصر على اللغة العربية الفصيحة، اذ ان اللغويين يتوقعون ان يلحق هذا الضرب من الاداء باللغة الفصحى، وان تحل محله العاميات التي تختلف باختلاف الدول التي تتكلم بها.
عوامل إطلاق النبوءة
واما العوامل التي استند اليها المسدي في اطلاق نبوءته هذه فكثيرة منها قوله: انه تحت ضغط اللغة الاجنبية وضغط العامية تتأثر الفصحى - كذا والصواب الفصيحة- ، ويتقلص نفوذها واذا استمر الامر على ما هو عليه اليوم وعما - كذا والصواب على ما - هو متوقع في المستقبل القريب، فان العريبة ستؤول تدريجيا الى الضمور والافول وستتحول الى لغة مرتهنة جدا في طقوس رسمية جدا، او تعبدية جدا او ابداعية في حدود ما.
وقوله كذلك ان الوضع الدولي اصبح يساعد على الزهد بالفصيحة، ويشجع على نمو حقول التداول بالعاميات وليس هذا كما يقول من باب المؤامرة التي تجري في الخفاء بل اصبح مرسوما في سجلات الخطط الستراتيجية الدولية، فهناك جهات دولية تعرض اليوم تمويلا سخيا، لانجاز مسلسلات عربية شريطة ان تكون بالعامية لا بالفصيحة(1)، وهناك تشريعات تربوية جديدة في فرنسا ألغت فيها العربية الفصيحة كلغة اجنبية واحلت محلها مجموعة من العاميات العربية كعامية مصر وعامية شمالي افريقيا وعامية المشرق العربي، وبذلك حققت فرنسا في هذه الايام ما عجزت عن تحقيقه ايام استعمارها شمالي افريقيا.
ومما قامت به فرنسا هو تشجيعها الحاد اللغة الامازيية وهي لغة بربرية وتأسيسها اكاديمية او مجمعا لهذه اللغة في باريس.
وقد حذت اميركا حذو فرنسا في الغاء الفصيحة كلغة اجنبية واحلالها مجموعة العاميات المذكورة انفا محلها.
ومما يلحق بالتشريعات الدولية الهادفة الى طمس العربية الفصيحة، ما اشار اليه الدكتور علي القاسمي في مقاله الذي نشره على الانترنيت، واوردت مضمونه في صدر هذا المقال، هو ان منظمة الامم المتحدة تتجه الى الغاء العربية من بين اللغات العالمية الرسمية التي تعتمد عليها المنظمة، وقد سوغت اتجاهها هذا بعوامل ثلاثة: الاول ان ممثلي الدول العربية شرعوا يهجرون العربية في اداء اعمالهم في المنظمة، ويعمدون الى الانجليزية او الفرنسية بدلا منها، والثاني ان الدول العربية لم تعد تفي بدفع نفقات استعمال المنظمة للغة العربية، والثالث غياب مترجمين اكفاء يترجمون ما يدور في المنظمة من اللغات العالمية الى العربية ترجمة مباشرة.
ومن العوامل التي تقف وراء نبوءة المسدي طغيان العاميات على وسائل الاعلام العربي ولا سيما المسموعة والمرئية منها، وان استعملت العربية الفصيحة في هذه الوسائل فانها تأتي مشحونة بالخطأ اللغوي في شتى انواعه، اي الخطأ الصوتي والخطأ الصرفي والخطأ النحوي، ولم تجد الكتب الكثير التي الفها الغيارى على اللغة، في تصحيح اخطاء ما يذاع وما ينشر ويكتب في وسائل الاعلام هذه.
ومن اللافت للنظر في مجال المقارنة بين برامج الفضائيات العربية والاذاعات العربية والبرامج الاعلامية الفرنسية مثلا، كالفضائيات والاذاعات تجد ان فضائيات فرنسا واذاعاتها مهما كان محتوى ما تنشره، هي مدرسة لغوية لمن يستمع اليها، اي انها تصوغ ما تنشر حتى ولو كان حديثا عن الرياضة او الرقص صياغة لغوية محكمة سليمة، ولكنها سلسة وطبيعية.
ولم تزحف العاميات الى وسائل الاعلام العربية، بل طغت على قاعات الدراسة في مختلف مراحل التعليم، واصبحت اداة التعبير المنطوق عن الفكر والعلم، وسيطرت على احاديث الساسة وخطبهم وما ينطق به المثقفون في المجالات الجادة وكان المفروض ان تقتصر العاميات على التعبير عن شؤون الحياة اليومية، ومجالات التخاطب اليومي بين افراد المجتمع.
غياب القرار السياسي
وثمة عامل آخر من العوامل التي حملت عبد السلام المسدي على اطلاق نبوءته التي جعلناها موضوع هذا المقال، هو ما اشار اليه من الفصل بين التنمية واللغة، فنحن في البلاد العربية مشغولون بردم ما بيننا وبين العالم من هوة سحيقة في مجال المعرفة، وفزعون مما تواجه منظومتنا المعرفية، من تخلف كبير اذا ما قيست بالمنظومة المعرفية العالمية، ولكننا صامتون صمتا آثما عن القضية الملازمة لهذه المنظومة المعرفية، وهي اللغة.
وعلى هذا الاساس يرى المخلصون ان مشاريعنا التنموية ستظل مشلولة ومنقوصة ما لم نواجه القضية اللغوية، بل ان ترك الحبل على الغارب في المسألة النحوية سيزيدنا تخلفا على الصعيد المعرفي.
ويبدو ان المسألة اللغوية في بلادنا العربية تحتاج الى قرار سياسي يقف تراجع اللغة العربية الفصيحة، ويمنع ضمورها او افولها، ويحصر استعمال العاميات العربية في مجالها الطبيعي، وهو التعامل في البيت والشارع والسوق وسائر ما تقتضيه شؤون العيش، واما فيما عدا ذلك فاللغة العربية الفصيحة هي التي تستعمل، اي في مجالات العلم والفكر والمعرفة وفي مجال المنابر الاعلامية، ايا كان مضمون ما تبثه هذه المنابر، وبذا يتحقق التجانس اللغوي في جميع الدول العربية.
وقد كان للقرار السياسي اثر فعال في التوحد اللغوي في امم كثيرة كان افرادها يعانون التشظي اللغوي، ولعل ابرز الامثلة على ذلك الشعب الصيني. فافراد هذا الشعب كانوا يعانون اشتاتا لغوية لا حد لها، ولكن القرار السياسي جعل الشعب الصيني موحدا لغويا، واصبحت اللغة الصينية لغة رسمية لهذا الشعب.
ومن الامثلة على ذلك الشعب الاميركي الذي كان ابناؤه يتحاورون بلغات شتى مختلفة، فجاء القرار السياسي لتوحيد الاميركيين لغويا، فانكب اللغويون على دراسة القضية اللغوية وسهلوا مهمة التوحيد اللغوي، فتم التوحيد.
ولا تفوتنا الاشارة هنا الى الشعب الفرنسي الذي كان يتكون من مجموعات لغوية، فكان القرار السياسي هو التجانس اللغوي حتى لا تتفتت الامة.
بل لقد كان للقرار السياسي اثر يشبه المعجزة في فلسطين المحتلة، فقد احيا هذا القرار لغة ميتة، وبعثها من مرقدها، وهي اللغة العبرية التي اعيد تشكيلها، ونفخت فيها الحياة مرة اخرى، فكان ما يعرف اليوم باللغة العبرية الحديثة.
ولكن القرار السياسي في البلاد العربية يحتاج الى امرين يعضدانه، الاول هو العمل الجاد المدروس على محو الامية، لان ذلك يرفع من مستوى العاميات العربية، ويقلص الفجوة الكبيرة بينها وبين العربية الفصيحة، ولكنه لا يقضي على العاميات لان القضاء عليها ضرب من الخيال. الثاني هو اصلاح تعليم اللغة العربية، واقامته على الاسس المتبعة حديثا في تعليم اللغات.
فهل تستجيب الانظمة العربية لصيحات اللغويين، وتعمل بمعونة العلماء والهيئات اللغوية المتخصصة، على وقف ضمور اللغة العربية الفصيحة، والحيلولة دون افولها، فيكون عملها هذا الذي يجب ان يدعمه ابناء الدول العربية، ويعوا ابعاده.
(1) يورد المسدي دائما(الفصحى) بدلا من(الفصيحة) اغفالا منه لافول (الفصحى) قبل عصرنا هذا بقرون، ومن الصعب احياؤها.